مقال تأملي
اقرأ هذه السطور ببطء. لا تعبرها عبور العابر المستعجل، توقف عند كل جملة وكأنها أثرٌ خفيّ يحتاج إلى أن يُلمَس أكثر مما يُقرأ، امنح كل جملة لحظة هدوء صغيرة في داخلك – مساحة تتأرجح فيها الحواس قبل أن تستعيد توازنها.
هناك ما يشبه صفائح رقيقة تهتزّ داخلنا بصوتٍ لا نراه؛ ليس صوت شكوى أو اعلان عن استياء او غضب، بل إيقاع خفي يغيّر نبرة الأشياء اليومية. قد يظهر هذا الإيقاع في تصرفات تبدو بسيطة: إغلاق تطبيقٍ قبل قراءة الرسالة، ترتيب متكرر للأغراض على الطاولة، أو ابتسامة امام مرآة… تُمحى فوراً… كما لو أن المرآة لا تستحق الاحتفاظ بها. هذه الحركات الصغيرة ليست حكماً علينا ولا دعوة لتسمية ما يحدث. هي إشارات، طرق هادئة يبتكرها اللاوعي ليحمينا أو ليصون شيئاً لم يُقل بعد.
الفرق بين ما نسمّيه حالة عابرة وما يتكرّر كأنشودة داخلية لا يكمن في شدّة الحدث، بل في إصراره على العودة. التكرار هو العلامة الأوضح: لا يحدث كصاعقة، بل كصوتٍ يعود من خلف الجدار مرة بعد أخرى. وهنا تكمن قيمة الملاحظة البطيئة – أن نرصد التكرار قبل أن نبحث له عن اسم.
الذاكرة لا تُخزَّن في الكلمات فقط. إنها تعيش في طريقة المشي، في تغيّر التنفس أمام قرارٍ عادي، في انقباض صغير في الكتف أو شدٍّ في الصدر. قبل أن يجد العقل تفسيراً، يكون الجسد قد أعلن رسالته. هذه العلامات الجسدية ليست دائماً مدعاة للقلق، لكنها تصبح نافذة إذا استقبلناها بفضول لا بحكم.
الحياة اليومية هي المختبر الحقيقي الذي تكشف فيه الأشياء الخفية عن نفسها. فالتجربة النفسية لا تنتظر أزمة كبرى لتظهر، بل كثيراً ما تعلن عن وجودها في لحظات عابرة: انتظار وسيلة نقل، ترتيب مكتب، أو خروج من اجتماع يترك وراءه إرهاقاً غير مبرر. هذه اللحظات تضيء أنماطاً دقيقة: فكرة تتكرر، ردّ فعل تلقائي، ميل متواصل لتجنّب شيء ما.
يمكننا أن نصبح مراقبين لطففاء لطقوسنا اليومية. ليس كقضاة، بل كملاحين يسجّلون إشارات صغيرة على الخريطة. ثلاث خطوات بسيطة قد تكفي:
- راقب الجسد: في لحظة غضب أو قلق، توقّف نصف دقيقة ولاحظ أين يستقر التوتر.
- راقب التكرار: سجّل سلوكاً عادياً تكرر خلال اليوم (إعادة قراءة رسالة، تأجيل قرار صغير، تبرير مألوف…) من دون أن تحاول تفسيره فوراً.
- اربط بالزمن: اسأل نفسك، هل هذا السلوك ملازم لي منذ زمن، أم ظهر بعد حدث معيّن؟
لا شيء من ذلك يعني تشخيصاً. الهدف أبسط: أن نُبصر كيف تعمل أنماطنا الداخلية. القراءة البطيئة تحوّل تفاصيل اعتدنا تجاهلها إلى خريطة صغيرة تكشف أين تسكن الخيوط التي تؤثر بنا بصمت.
هناك سلوكيات تبدو عادية لكنها تحرس أبواباً داخلية: تبريرات متكررة للانسحاب، البحث المستمر عن ضمانات قبل النوم، أو الانشغال الدائم لتفادي الفراغ. ليست المشكلة في الفعل نفسه، بل في الإيقاع الذي يفرضه علينا.
لا تتعجل الحكم. الاكتشاف الأولي يكفي؛ التغيير يأتي لاحقاً إذا أردت. أحياناً يكفي أن نلمس ما يحدث بلطف، أن نقرّ بوجوده، وأن نعامل أنفسنا بالرحمة التي نمنحها لصديق. أن تكون مراقباً لطيفاً هو البداية لأي تحول عميق.
هذه الكلمات ليست خاتمةً تقفل الطريق، بل أثرٌ صغير يترك الباب مفتوحا لتأملٍ آخر… ثم بعد القرائة: أن تبقى يقظاً لحركاتك الصغيرة، أن تتعامل مع الإشارات كمعلومة لا كاتهام. من يقرأ هذه السطور ببطء قد يجد بينها صدى مألوفاً لم ينتبه له من قبل – ليس حكماً ولا تشخيصاً، بل مجرد ضوء خفيف يلمس زاوية كانت غامضة.