المنطق النفسي
حين تُقترح أفكار من مرجعية التحليل النفسي، لمحاولة تخفيف المشكلات النفسية قد تبدو هذه المقترحات في الكثير من الأحيان غريبة ومخالفة للمنطق العقلاني الواضح في نظر المتلقي.. إلى حين أن تبدد هذه الغرابة بفهمه للمنطق النفسي من وراء هذه الغرابة.
كمثال:
يحدث أن نشتكي من التعلق الشديد بموضوع ما، التعلق بشخص أو الارتباط بعادة قهرية أو أي تعلق يضر بنا نفسيا واجتماعيا وصحيا..
بعد مراحل التشخيص والفهم ينتظر المتضرر أفكارا وبرنامج عادات تبعده بشكل مباشر من موضوع التعلق، لكنه يفاجئ باقتراح الاستمرار مبدئيا بموضوع التعلق وقد يكون المقترح مضمنا بضرورة اندفاع صافي وخال من أي مانع نحو موضوع التعلق!
فعلى ماذا ينبني المنطق في منهج التحليل النفسي في مثال التعلق؟
1 – فهم تثبيتات fixations “اللبيدو” في التاريخ النفسي:
التثبيت يعني توقف النمو العاطفي للشخص لدرجة أن يشكل اضطرابا ما، والاضطراب موضوع هنا هو التعلق المرضى، والليبدو مفردة ألمانية تعني في مجال التحليل النفسي طاقة الرغبة، والقصد من فهم التثبيتات اللبيدية في التاريخ النفس للشخص هو الاطلاع ما أمكن عبر حكي الشخص المعني عن مواقف متشابهة في الموضوع، ومتكررة في تاريخه النفسي، والوصول إلى أبعد نقطة ممكنة من تاريخ تعلق الشخص، يتيح للمحلل فهم كيفية حدوث تثبيت التعلق في الماضي لفهم كيف يسهل أن يحدث في الحاضر.
فمنطق التحليل النفسي هنا ينبني على فهم “سلوك العاطفة المرضية” التي أودت بالشخص إلى أن يكون متعلقا. وبناء على هذا الفهم سيسهل على المحلل أن يقترح على الشخص المعنى أفكارا لتعديل سلوك هذه العاطفة.
كذلك المعالجون من المنهج ( السلوكي المعرفي) ينهجون نفس المسار لكن من خلال تحديد أسئلة محددة أو اختبارات مصممة لهذه الغاية. وأيضا تساعد الاختبارات الاسقاطية من المرجعية التحليلية في ذلك.
2 – الانتباه لحيادية طاقة الرغبة
القارئ المتسرع لكتب ودراسات التحليل النفسي قد يفاجئ بكم قاس من التفسيرات الجنسية “الرهيبة“، التي قد تربط التعلق بزنا المحارم أو عقد الذنب الجنسية تجاه الوالدين وعقد العهر والعار تجاه الدين، والنظر للتعلق ككابت ربما، للمثلية الذكورية أو الأنثوية..
لكن القارئ لفلسفة التحليل النفسي وأساسها يفهم أن المحلل يرى في طاقة الرغبة طاقة بريئة من الثقافة، التي ألبستها كل ألوان المآسي النفسية، طاقة قوية بريئة ومحايدة، لاتعرف سوى طريقها للتحقق والارتياح، هذه الطريق قد تصطدم برغبات مرفوضة اجتماعيا لكنها تتحول وترتقى من أجل أن تتحقق، أو سلك مسلكا نكوصيا، وذلك بأن تنحط بصاحبها وتدمره إلى أن يصل لدرجة التفكير في الانتحار!
فهم أن طاقة الرغبة لدى الفرد هي محايدة يجعل المحلل في موقف المحايد من أي حكم أخلاقي تجاه الشخص المعني، فهو يسعى لفهم المسار المتوتر لهذه الطاقة الفيزيائية البحتة، ثم اقتراح أفكار لتحريرها بشكل يتناسب والمحيط، وتحرير صاحبها من التعلق، بما أن موضوعنا هو التعلق.
3 – أداء الميكانزمات الدفاعية
الميكانيزمات أو الآليات الدفاعية هي عمليات وجدانية يفعلها الجهاز النفسي منذ اليوم الأول من الولادة لأجل مساعدة الإنسان على التكيف وحمايته من الصدمات القوية، لكن عددا من هذه الآليات قد يشتغل بطريقة تضر الشخص، ذلك أن اشتغالها في مرحلة الطفولة يظل كما هو في فترة المراهقة مثلا، ولاتتطور بالموازاة مع المتغيرات التي تحدث للشخص في هذه المرحلة.
وقد تخفت فعالية آليات مثل الكبت مثلا في مرحلة متأخرة من مراحل العمر وتظهر اضطربات مؤلمة لا يفهم الشخص مصدرها، ذلك أن المواقف المرتبطة في الذاكرة لازالت مكبوتة ولكن التراكم المؤلم لم يعد كذلك بسبب عدم كفاءة آلية الكبت ولم تعد قادرة على كبت العواطف الرهيبة ببسبب تراكمها .
فالمنطق النفسي عموما هو منطق يحاول فهم الاختلال الحاصل للآليات النفسية مما يساعد على فهم البدائل الممكنة لتقوية هاته الآليات أو التخفيف من الضغط عليها.