الخوف من النجاح: عندما نخشى ما نتمناه!

ليس مجرد تردّد أمام هدف، بل حالة داخلية من المقاومة النفسية تجاه كل ما يقود إلى الإنجاز.

هذا التحليل الذي قد يبدو لنا غريبا ومبالغا فيه… لكنه مهم لانه أحيانًا لا نفشل لأننا نفتقر إلى الموهبة أو الإمكانيات، ولا لأننا كسالى كما نتصوّر… بل لأن هناك سببًا خفيًا، غير متوقع، وربما يبدو غريبًا لدرجة يصعب تصديقه: الخوف من النجاح نفسه. كأن لاوعينا يضع العراقيل أمامنا لحمايتنا من تحوّل داخلي أو مسؤولية جديدة لا نعرف كيف نحتويها. وهكذا نكتشف أن أكبر العقبات قد لا تكون في الطريق أمامنا، بل في أعماقنا حيث لا نتوقعها.

الخوف من النجاح: عندما نخشى ما نتمناه!

قد يبدو متناقضًا أن نخاف مما نركض نحوه. أليس النجاح غاية السعي والتعب؟ لكن في العمق النفسي، الأمر أعقد بكثير: كثيرون حين تقترب لحظة الإنجاز، يشعرون بالقلق، يؤجّلون، يتراجعون، أو يضعون عراقيل غير واعية في طريقهم.
هذا ما يُعرف بـ الخوف من النجاح، أحد أكثر المخاوف خفاءً ودهاءً.
إنه خوف صامت، لا يُعترَف به علنًا، لكنه يسكن تحت طبقات السلوك. خلفه تاريخ طويل من ارتباطات لاواعية، وتجارب مبكرة تركت أثرها في صميم النفس.

ما هو الخوف من النجاح؟

ليس مجرد تردّد أمام هدف، بل حالة داخلية من المقاومة النفسية تجاه كل ما يقود إلى الإنجاز.
قد يتجلى في:

  • تأجيل متكرر رغم الكفاءة.
  • تحقير الذات (“لست أهلًا للنجاح”).
  • صناعة عراقيل خارجية واهية.
  • انسحاب في اللحظة الحاسمة.

النجاح هنا ليس المشكلة، بل ما يرمز إليه في لاوعينا: تحوّل، مسؤولية، مواجهة، كشف، وربما خسارة محبة أو مكانة مألوفة.

ماذا يحدث داخل الدماغ عند الخوف من النجاح؟

حين نقترب من إنجاز مهم، يدخل الدماغ في حالة صراع عصبي مزدوج:

  • اللوزة الدماغية (Amygdala): تفسّر النجاح كتغيير كبير > استشعار خطر > زيادة القلق.
  • القشرة الجبهية الأمامية (Prefrontal Cortex): تحاول تهدئة الإنذار، لكنها في بعض الأشخاص تفشل في كبح الموجة العاطفية.
  • الحُصين (Hippocampus): يستدعي ذكريات قديمة مرتبطة بالفشل أو الرفض > يعزز التردد.
  • الدوبامين: المفارقة أنه يرتفع مع اقتراب الإنجاز (إحساس بالتحفيز)، لكنه قد يرافقه ارتفاع الكورتيزول (هرمون التوتر) الذي يخلق شعورًا بالتهديد بدل المتعة.

النتيجة: جهاز عصبي يعيش نجاحك كخطر محتمل، فيطلق استجابات تجنّبية أو تخريبية.
بالمقابل، التدريب النفسي والسلوكي يساعد على إعادة برمجة هذه الدوائر: بتقوية الكبح الجبهي، وبناء روابط جديدة بين النجاح والشعور بالأمان بدل الخوف.

كيف تفسّره المدارس النفسية؟

التحليل النفسي الكلاسيكي (فرويد)

في رؤية فرويد، كل سلوك بشري يرتبط بصراعات داخلية لاواعية. الخوف من النجاح يرتبط غالبًا بـ:

الشعور بالذنب اللاواعي: النجاح قد يُشعر الفرد بأنه “خان” عائلته أو طبقته أو بيئته.

عقدة أوديب المعكوسة: النجاح يُعاش كتمرد على “الأب”، أو كتجاوز له، فيثير مشاعر ذنب ورغبة في العقاب.

اللاوعي يربط بين النجاح والعقاب: “إن تفوقت، سيحدث شيء سيء.”

التحليل النفسي اللاكاني (لاكان)

لاكان يذهب أبعد من ذلك:
النجاح عنده يلامس “رغبة الآخر الكبير” — من الذي يريد هذا النجاح فعلًا؟
حين نقترب من تحقيق رغبة كبيرة، نشعر بأننا نُعرض أنفسنا لانكشاف داخلي.
النجاح يكشفنا، يُخرجنا من مخبئنا الرمزي.

بالنسبة للاكان، النجاح هو اقتراب من “الشيء” (la Chose) — مركز الرغبة المكبوتة — وهذا مرعب، لأنه يُهدّد نظامنا الرمزي المعتاد.

المدرسة الإنسانية (روجرز – ماسلو)

في المقاربة الإنسانية، الخوف من النجاح يُفسَّر بوجود تناقض بين صورة الذات الحالية وصورة الذات الممكنة.

عند الاقتراب من النجاح، يشعر الشخص بأنه:

لا يستحقه فعلاً.

سينفصل عن “نسخته الحقيقية”.

سيفقد صدق علاقاته القديمة.

ماسلو يرى أن تحقيق الذات (self-actualization) يحتاج إلى بيئة داخلية من الأمان والثقة، وإلا فإن الشخص يرفض “الارتقاء” حفاظًا على شعور الألفة مع ما يعرفه، حتى ولو كان ألمًا مألوفًا.

المدرسة المعرفية–السلوكية

تُرجع المدرسة المعرفية الخوف من النجاح إلى معتقدات خاطئة ومتجذّرة، مثل:

“إذا نجحت، سيحسدني الآخرون.”

“سأفقد أصدقائي.”

“النجاح مسؤولية كبيرة لا أقدر عليها.”

هذه الأفكار اللاعقلانية تدفع الفرد إلى سلوكيات تجنّبية أو تخريبية رغم قدراته.

نظرية التعلق

الأشخاص ذوو نمط التعلق القلق يخافون من أن يغيّر النجاح علاقاتهم.
النجاح قد يعني الاستقلال، والنضج، والانفصال – وهذه كلها مخيفة بالنسبة لمن يخاف فقدان الارتباط.

لماذا نخاف من النجاح اذا؟

  • لأننا نربطه بخسارة: هوية، أمان، أو محبة.
  • لأنه يضعنا أمام مسؤولية كاملة عن حياتنا.
  • لأنه يهدّد وهم “العذر” الذي نحتمي به.
  • لأنه يكشف أن الإنجاز وحده لا يملأ فراغ الداخل.

كيف نواجه هذا الخوف؟

  • 1. الوعي بالجرح الأصلي
    ما الذي نخاف أن نخسره إذا نجحنا؟ الحب؟ الانتماء؟ حماية صورة الذات؟
    العودة إلى الطفولة تفتح هذا الباب.

️ 2. تحرير الرابط بين النجاح والخطر
من الضروري فكّ الارتباط اللاواعي بين النجاح والعقوبة أو الرفض.

️ 3. العمل مع معالج نفسي
سواء عبر التحليل النفسي أو العلاج المعرفي السلوكي، يمكن تفكيك هذه البُنى الداخلية التي تقاوم التقدّم.

️ 4. إعادة تعريف النجاح
ليس النجاح تسلّقًا خارجيًا فقط، بل توسّع داخلي نحو الحياة الأوسع.
حين نرى النجاح كتعبير عن الذات لا كتحدٍ للآخر، يخف الخوف.

️ 5. التدرّج بدل القفز
النجاح لا يجب أن يكون مفاجئًا. التقدم خطوة بخطوة يسمح للجهاز النفسي أن يتأقلم دون فزع.

كلمة أخيرة

الخوف من النجاح ليس ضعفًا، بل مرآة تكشف تعقيد نفوسنا. إنه ليس رفضًا للإنجاز، بل مقاومة للتغيير الكبير الذي يرافقه.
وحين نفهمه، يتضاءل سحره المخيف.
النجاح الحقيقي لا يمرّ فوق جراحنا، بل يمدّ يده إليها ويقول: “أنا لم أنسَك… لكنني كبرت.”

المقال السابق

هل هناك هرمون للسعادة ؟ وهل يمكن أن نتحكّم في «هرمونات السعادة»؟

المقال التالي

خرائط خفية في تفاصيلك اليومية.. تكشف حالتك النفسية

أضف تعليقًا

شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في نشرتنا الإخبارية

انضم إلى عائلتنا واشترك في نشرتنا البريدية لتصلك أحدث المقالات والنصائح مباشرة إلى بريدك الإلكتروني، وكن دائمًا أول من يطّلع على الجديد!
إلهام خالص، من دون رسائل مزعجة